الأحد، 12 ديسمبر 2010

طلب الدعاء من الغير


طلب الدعاء من الغير ينقسم إلى أقسام: 
القسم الأول: أن يطلب من الغير الدعاء لصالح المسلمين جميعا أي شيء عام فهذا لا بأس به، وقد دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا فأنشأ الله سحابة فانتشرت وتوسعت وأمطرت ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر أسبوعا كاملا وفي الجمعة الثانية دخل رجل آخر أو الأول فقال: يا رسول الله غرق المال وتهدم البناء فادع الله يمسكها عنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا وجعل يشير إلى النواحي فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت وتمايز السحاب حتى خرج الناس يمشون في الشمس . فإذا طلبت من شخص صالح مرجو الإجابة شيئا عاما للمسلمين فهذا لا بأس به لأنك لم تسأل لنفسك مثال ذلك: لو أن رجلا جاء إليك يطلب منك الشفاعة لتغيث رجلا ملهوفا أو تقضى عنه دينه أوترفع الظلم عن رجل ضعيف من المسلمين فإن هذا لا بأس به لأن المصلحة لغيره.

القسم الثاني: أن يطلب الدعاء من الرجل الصالح من أجل أن ينتفع الرجل بهذا الدعاء ولا يهمه هو أن ينتفع لكن يحب من هذا الرجل الذي طلب منه الدعاء أن يلجأ إلى الله وان يسأل الله عز وجل وأن يعلق قلبه بالله وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سميع الدعاء المهم أن يكون قصده مصلحة هذا الرجل فهذا لا بأس به أيضا لأنك لم تسأله لمحض نفعك ولكن لنفعه هو فأنت تريد أن يزداد هذا الرجل الصالح خيرا بدعاء الله عز وجل وأن يتقرب إلى الله بالدعاء وأن يحصل على الأجر والثواب.

القسم الثالث: أن يطلب الدعاء من الغير لمصلحة نفسه هو فهذا أجازه بعض العلماء وقال لا بأس أن تطلب من الرجل الصالح أن يدعو لك لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال لا ينبغي إذا كان قصدك مصلحة نفسك فقط لأن هذا قد يدخل في المسألة المذمومة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا وكذلك لأنه ربما يعتمد هذا السائل الذي سأل غيره أن يدعو له ربما يعتمد على دعاء هذا الغير وينسى أن يدعو هو لنفسه فيقول: أنا قلت لفلان وهو رجل صالح ادع الله لي وإذا استجاب الله هذا الدعاء فهو كاف فيعتمد على غيره وكذلك لأنه ربما يلحق المسئول غرور في نفسه وأنه رجل صالح يطمع الناس إلى دعائه فيحصل في هذا شر على المسئول .وعلى كل حال فإن هذا القسم الثالث مختلف فيه فمن العلماء من قال: لا بأس أن تقول للرجل الصالح يا فلان ادع الله لي ومنهم من قال لا ينبغي والأحسن ألا تقول ذلك لأنه ربما يمن عليك بهذا وربما تذل أمامه بسؤالك ثم إنه من الذي يحول بينك وبين ربك ادع الله بنفسك لا أحد يحول بينك وبين الله لماذا تذهب تفتقر إلى غيرك وتقول: ادع الله لي وأنت ليس بينك وبين ربك واسطة ؟ 
قال الله تعالى: { وقال ربكم ادعوني استجب لكم }
وقال: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }



شرح رياض الصالحين للشيخ العثيمين "رحمه الله"
المجلد الثالث (من شرح الحديث 717)

الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

ثلاث وصايا... للشيخ العلامة الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي-رحمه الله-


"عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، عِظْني وأوجز. فقال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع، ولا تَكَلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس" رواه أحمد.

هذه الوصايا الثلاث يا لها من وصايا، إذا أخذ بها العبد: تمت أموره وأفلح.
فالوصية الأولى:

تتضمن تكميل الصلاة، والاجتهاد في إيقاعها على أحسن الأحوال. وذلك بأن يحاسب نفسه على كل صلاة يصليها، وأنه سيتم جميع ما فيها: من واجب، وفروض، وسنة، وأن يتحقق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات. وذلك بأن يقوم إليها مستحضراً وقوفه بين يدي ربه، وأنه يناجيه بما يقوله، من قراءة وذكر ودعاء ويخضع له في قيامه وركوعه، وسجوده وخفضه ورفعه.

ويعينه على هذا المقصد الجليل: توطين نفسه على ذلك من غير تردد ولا كسل قلبي، ويستحضر في كل صلاة أنها صلاة مودِّع،كأنه لا يصلي غيرها.
ومعلوم أن المودع، يجتهد اجتهاداً يبذل فيه كل وسعه.
ولا يزال مستصحباً لهذه المعاني النافعة، والأسباب القوية
حتى يسهل عليه الأمر، ويتعود ذلك.
والصلاة على هذا الوجه: تنهى صاحبها عن كل خلق رذيل، وتحثه على كل خلق جميل؛ لما تؤثره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغبته التامة في الخير.

وأما الوصية الثانية:

فهي حفظ اللسان ومراقبته؛ فإن حفظ اللسان عليه المدار، وهو مِلاك أمر العبد. فمتى ملك العبد لسانه ملك جميع أعضائه. ومتى ملكه لسانه فلم يصنه عن الكلام الضار، فإن أمره يختل في دينه ودنياه. فلا يتكلم بكلام، إلا قد عرف نفعه في دينه أو دنياه. وكل كلام يحتمل أن يكون فيه انتقاد أو اعتذار فليدعه، فإنه إذا تكلم به ملكه الكلام، وصار أسيراً له. وربما أحدث عليه ضرراً لا يتمكن من تلافيه.


وأما الوصية الثالثة: 
فهي توطين النفس على التعلق بالله وحده،في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله.ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أيس من شيء استغنى عنه. فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله.فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق. قد تحرر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم. والله أعلم."

الاثنين، 6 ديسمبر 2010

فــــائــــدة


قال ابن القيم "رحمه الله "في كتاب:مفتاح دار السعادة - (1 / 112)
إن الله سبحانه بحكمته سلط على العبد عدوا عالما بطرق هلاكه واسباب الشر الذي يلقيه فيه متفننا فيها خبيرا بها حريصا عليها لايفتر يقظة ولا مناما ولا بد له من واحدة من ست ينالها منه احدها وهي غاية مراده منه:
 إن يحول بينه وبين العلم والايمان فيلقيه في الكفر فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح فان فاتته هذه وهدى للاسلام.
 حرص على تلو الكفر وهي البدعة وهي احب اليه من المعصية فان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لان صاحبها يرى انه على هدى وفي بعض الاثار يقول ابليس اهلكت بني آدم بالذنوب واهلكوني بالاستغفار وبلا اله الا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لانهم يحسبون انهم يحسنون صنعا فاذا ظفر منه بهذه صيره من رعاته وامرائه.
فان اعجزه شغله بالعمل المفضول عما هو افضل منه ليرتج عليه الذي بينهما وهي الخامسة.
فان اعجزه ذلك صار الى السادسة وهي تسليط حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والارادة وسائر اعماله.
فكيف يمكن ان يحترز منه من لا علم له بهذه الامور ولا بعدوه ولا بما يحصنه منه فانه لا ينجو من عدوه الا من عرفه وعرف طريقه التي يأتيه منها وجيشه الذي يستعين به عليه وعرفت مداخله ومخارجه وكيفية محاربته وبأي شيء يحاربه وبماذا يداوى جراحته وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه وهذا كله لا يحصل الا بالعلم فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الامر العظيم والخطب الجسيم ولهذا جاء ذكر العدو وشأنه وجنوده ومكايده في القرآن كثيرا جدا لحاجة النفوس الى معرفة عدوها وطرق محاربته ومجاهدته فلولا ان العلم يكشف عن هذا لما نجا من نجا منه فالعلم هو الذي تحصل به النجاة.

السبت، 4 ديسمبر 2010

أَسْبَابُ السَّعَادَة


إنّ السعادة مطلب جميع البشرية، ومقصد كلّ الناس، كلٌّ يرجوها وكلٌّ يطلبها وكلٌّ يسعى في نيلها وتحصيلها.
ومن يتأمَّل أحوال الناس وآراءهم في سُبل نيل السعادة يجد وجهات متباينة وآراءً مختلفة؛ فمن الناس من يطلب السعادة بالجاه والرئاسة، ومنهم من يطلب السعادة بالغنى والمال، ومنهم من يطلب السعادة باللهو واللعب ولو كان بالحرام، ومنهم من يطلب السعادة بتعاطي أمور محرمة كالخمور والمخدرات ونحو ذلك من المسكرات والمفترات، ومنهم... ومنهم...
وكل من هؤلاء إن قيل له عن ماذا تبحث؟ وأي شيء تطلب؟ يقول أبحث عن السعادة. أريد الراحة.. أريد اللذة.. أريد قرة العين.. أريد انشراح الصدر.. أريد طرد الهموم وزوال الهموم والبعد عن الأحزان والآلام، ولكن الآراء والأفهام تتباين، والعقول والمدارك تتفاوت ولكلٍّ وجهته هو مولِّيها. بل ربما بعض الناس بل كثير منهم يطلب سعادته فيما فيه شقاؤه وهلاكه في الدنيا والآخرة، مثله في ذلك كمثل الباحث عن حتفه بظلفه.
ولكن المسلم بما آتاه الله تبارك وتعالى من بصيرة بدينه ومعرفة بهدى ربِّه جلّ وعلا يدرك أن سعادته بيد الله وأنه لن ينالها إلا برضا الله سبحانه وتعالى، وهذه جملة مختصرة تغني عن كلام مطول، يدرك أن سعادته بيد الله وأنه لن ينالها إلا برضا الله سبحانه وتعالى. قال جلّ وعلا { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: ]، ونفي الضلال فيه إثبات الهداية ونفي الشقاء فيه إثبات السعادة. وقال تعالى: {طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه: ? – ?]، أي بل أنزلناه عليك لتسعد.
فالسعادة بيد الله ولا ينالها العبد إلا بطاعة الله تبارك وتعالى، ومهما بحث الإنسان عن سعادة نفسه في غير هذا السبيل فلن يحصل إلا الشّقاء والنّكد والنّصب والتعب وسوء الحال وضياع الأوقات في غير طائل.
فالسعادة بيد الله, وهو جلّ وعلا ميسر الأمور وشارح الصدور والمعين والهادي والموفق، بيده ـ جلّ وعلا ـ أزمةُ الأمور يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعزّ ويذلّ، ويقبض ويبسط، ويهدي ويضل ويغني ويفقر، ويضحك ويبكي {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:]، فالأمر كلّه بيد الله. وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. فالأمر كلّه بيد الله { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: ].
فأساس قاعدة السّعادة ومرتكزها الذي عليه تدور، ومحورها الذي إليه ترجع هو الإيمان بالله تبارك وتعالى؛ الإيمان به جلّ وعلا ربّاً وخالقاً ورازقاً، متصرِّفاً ومدبِّراً، معطياً ومانعاً، وخافضاً ورافعاً، قابضاً وباسطاً. والإيمان بأنه جلّ وعلا المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. والإيمان بأنه جلّ وعلا الأمور كلّها بيده وبقضائه وقدره، لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وعلى ضوء هذا الأساس وبناء على هذا المرتكز الذي هو الإيمان بالله وبما يقتضيه الإيمان من الطاعات والأعمال الصالحات تكون السعادة. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ].
فالحياة الطّيبة التي ليس فيها نكد ولا مكدرات ولا آلام ولا هموم ولا غموم هي حياة الإيمان وحياة الطاعة؛ ولهذا فإن المسلم دائماً وأبداً يعيش حياة الهناء والسعادة وقرّة العين بما أكرمه الله به من إيمان؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها)) أي أصلها الذي عليه تبنى وأساسها الذي عليه ترتكز.
فأهل الإيمان هم أهل السعادة، ومن فارقه الإيمانُ فارفته السعادة وكان من أهل الشّقاء في الدنيا والآخرة.
ولهذا ينبغي أن يُعلم أن الإيمان لذة وسعادة وجنّة معجَّلة للمؤمن في الدنيا، ولهذا قال شيخ الإسلام ـ مقرِّراً هذا المعنى ـ: ((في الدنيا جنّة من لم يدخلها لم يدجل جنةَ الآخرة)) يقصد جنّة الإيمان ولذّة الإيمان وحلاوة الإيمان، وما يجده المؤمن في إيمانه من قرّة عين وراحة قلب.
يقول عليه الصلاة والسلام «جعلت قرة عيني في الصلاة»، ويقول :  «أرحنا بالصلاة يا بلال»
فالإيمان وتوابع الإيمان ومتمماته ومكملاته هذه هي السعادة الحقيقية, وهي سعادة في الدنيا والآخرة. ولهذا فإن من كان من أهل الإيمان تحقيقًا له وتتميماً وقياماً بمقتضياته وما يستوجبه الإيمان نال من السعادة بحسب ما عنده من الإيمان. وإذا ضعف الإيمان ضعف حظه من السعادة، وإذا ذهب الإيمان ذهبت السعادة وفارقت الإنسان. فبالإيمان يسعد وبالإيمان يطمئن وبالإيمان تقر العين وبالإيمان ينشرح الصدر وبالإيمان يرتاح البال. { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: ].
فالسعادة أمر مرتبط بالإيمان وجوداً وعدماً، كما جاء في الحديث الصّحيح: ((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)).
فالمؤمن في سرّائه شاكر، وفي ضرّائه صابر، وفي وقوعه في الذنب مستغفر.
وهذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد: إذا أذنب استغفر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر.
وقد قرّر هذا المعنى العلامة ابن القيم رحمه الله تقريرًا لا مزيد عليه في أول كتابه الوابل الصيب؛ وبيَّن رحمه الله تعالى أنّ العبد المؤمن في حياته لا يخلو من هذه الأحوال الثلاثة.
الأمر الأول: إذا أذنب استغفر، لأنّ المؤمن يدعوه إيمانُه عندما يذنب إلى الإنابة والتوبة. ولهذا نادى الله عز وجل أهلَ الإيمان إلى التوبة باسم الإيمان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: ]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: ]، فالمؤمن إذا أذنب فزع إلى إيمانه فأرشده إيمانه إلى التوبة والاستغفار، وهداه إيمانه إلى أنّ له ربّاً توّاب غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويغفر الذنوب والخطيئات ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: ]
فيدعوه إيمانه إلى الاستغفار وإلى الإنابة والرجوع إلى الله عزّ وجلّ ومراقبته سبحانه وتعالى، وإذا كان العاصي المتمادي في عصيانه يجد لذة في تتبعه لشهواته، فإنّ مَن حقّق الإيمان ومراقبة الرجمن يجد لذةً لا تقارَن بلذة العصاة. وهي لذة الطاعة والاستجابة والامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى فيسعد سعادةً حُرمها أهل العصيان ولم يظفروا بها، وهم ينالون في معاصيهم وشهواتهم لذةً تنقضي في حينها وتبقى تبعاتها وحسراتها.

تفنى اللَّذَاذَةُ ممَنّ نال صفوتَها
                         مِنَ الحَرام ويبقى الخِزِيُ والعارُ
وتبقى عَواقِبُ سوءٍ من مغبَّتِهَا
                              لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
والأمر الثاني: إذا أُنعم عليه شكر؛ نعم الله على عبده كثيرة لا تعد ولا تحصى، نعم في بدنه ونِعم في ماله ونِعم في ولده ونعم في مسكنه وفي جميع شؤونه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: ].
فالسعادة تكون في حمد الله وشكره على نعمائه وعلى مَنِّه وفضله سبحانه وتعالى وعطائه. والشكر سبب زيادة النّعم ودوامها، وقرارها وثبوتها ونمائها وبركتها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: ] والمؤمن الشاكر يجد لذة الشكر ولذة الحمد ولذة الاعتراف بنعمة المنعِم سبحانه فتقرّ عينُه بذلك.
والأمر الثالث : إذا ابتلي صبر قال جلّ وعلا {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: ].
قال علقمة رحمه الله : ((هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم)).
ولهذا المؤمن في نعمائه يفوز بثواب الشاكرين، وفي مصابه وضرائه وابتلائه يفوز بثواب الصابرين. فهو مأجور على كل حال، فهو على خير في كل حال. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير..))، وإذا تأمَّل المسلم في هذا عرف قيمة الإيمان ومكانته العظمى في تحصيل السعادة واكتسابها.
وبهذا يعلم أن الإيمان مفزع لصاحبه، يفزع إليه عند الطاعة، ويفزع إليه عند المعصية، ويفزع إليه عند النعمة، ويفزع إليه عند المصيبة.
فالمؤمن يفزع إلى الإيمان في كل مشكلة وفي كل عارض وفي كل نازلة ويجد الإيمان هادياً ومسدّدا وقائداً إلى كل فضيلة وخير، وهنا تتحقق السعادة.
إذا أصابته النعمة لا يدخله كِبْر ولا بَطَر ولا عُجْب ولا غرور ولا شيء من الأمور المنافية للإيمان الواجب. بل إيمانه يهديه أن هذه نعمة الله عليه ومنته وفضله سبحانه وتعالى، فتجده معترفًا بالنعمة للمنعم، شاكراً مستعملاً للنعمة في طاعة الله فيوفَّق لكل خير.
ويفزع إلى إيمانه في ضرّائه وفي شدّته وبلائه فيأتيه الإيمان بالهدايات المباركة؛ يرشده إلى الصبر، يدعوه إلى الرضا والتوكل على الله سبحنه وتعالى وحسن اللجوء إليه، يرشده إلى الدعاء والمناجاة ولذة الإقبال على الله سبحانه وتعالى.
وإذا وُفق للطاعة من علم نافع أو قول سديد أو عمل صالح أو بذل أو إحسان أو غير ذلك يفزع إلى الإيمان فيهديه الإيمان إلى أن هذه منة الله عليه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [النور: ]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [الحجرات:].
فيحمد الله الذي هداه لهذه الطاعة ووفقه لهذه العبادة ولا يدخل في عجب. والعجب من أكبر ما يكون ضرراً على الإنسان.
 والعُجْبَ فاحْذَرْهُ إنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ
                        أعْمالَ صاحِبِهِ في سَيْلِهِ العَرِمِ
العجب دمار على الإنسان وهلاك، ومجترف لأعماله، فإذا وُفق للطاعات والعبادات وأبواب من الخير يقول، هذا فضل الله عليّ، هذا نعمة الله، هذا توفيق الله، أسأل الله أن يزيدني من فضله، يعرف نعمة الله عليه فيسعد.
وإذا وقع في معصية فزع إلى الإيمان فهداه إيمانُه إلى التوبة والإنابة والحياء من الله والرجوع إلى الله فيجد لذة الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا إذا لم يحسن الإنسان في هذا الباب باب الطاعة والمعصية ولم يُحسن الفزع إلى الله يتضرّر وربما يكون فيه هلاكه. كما قال ابن القيم رحمه الله: ((وهذا معنى قول بعض السلف: إنّ العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا: كيف ؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقاً وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربِّه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة, ويفعل الحسنة فلا يزال يمنّ بها على ربِّه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه)) اهـ.
وهذا الموضوع العظيم النافع تكلَّم عنه بكلام مفيد للغاية العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي في   آخر كتابه "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان"، وأنصح كثيراً بقراءة هذا الكتاب كاملاً.
وله أيضاً منظومة جميلة جداً في السير إلى الله والدار الآخرة صدّرها بقوله :
سَعِدَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى
        وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ
ثم ذكر أوصاف هؤلاء. والمنظومة يصلح أن توصف بأوصاف السُّعداء. ذكر فيها أوصافاً عظيمة للسائرين إلى الله. فمن أراد أن يقرأ أوصاف السعداء فليقرأ تلك المنظومة مع شرحه لها رحمه الله تعالى.
والعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "زاد المعاد" عقد فصلاً عظيماً جداً أيضاً جديراً بأن يُطلع عليه وأن يُقرأ في أسباب شرح الصدر. وشرح الصدر هو السعادة وهو اللذة والطمأنينة. فذكر رحمه الله أموراً عديدةً يُنال بها شرحُ الصدر.
والمقصود أنّ الإيمان مفزع للمؤمن في المسار والمكاره، في الطاعات والمعاصي، في المصائب والنعم، وأن المؤمن في أحواله كلّها يفزع إلى الإيمان فيجد في ذلك السعادة في الدنيا والآخرة. والله جلّ وعلا يقول {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:] أي : نعيم –كما قال أهل العلم- في دورهم الثلاثة: في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة. {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:] أي في دورهم الثلاثة: في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة.
أسال الله الكريم ربّ العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكتب لنا جميعاً بحياة السعداء وأن يصلح لنا جميعاً ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.


من فوائد ابن القيم رحمه الله


للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه :


أحدها :مشهد القدر وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار فإن الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا : استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت

المشهد الثاني : مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم

المشهد الثالث : مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما صح عن النبي وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل , هذا وفي الصفح والعفو والحلم : من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام : ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام

المشهد الرابع : مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته رضيت بما نالها في الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره ومتى تسخط به وتشكى منه كان ذلك دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قيل :
من أجلك جعلت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن

المشهد الخامس : مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك , وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم ويهونه عليك أيضا : علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك فهذا لابد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها

المشهد السادس : مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام

المشهد السابع : مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم : واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرا فكم من حقير أردى عدوه الكبير فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل : أمن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك أيضا

المشهد الثامن : مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام : قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله ,وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي من سكنى مكة أعزها الله ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم : تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله : حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه : (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان : 17

المشهد التاسع : مشهد النعمة وذلك من وجوه أحدها : أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما.
ومنها : أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء : فهو مغبون سفيه فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها : أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين ومنها : توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة وفي بعض الآثار : أنه يتمنىأناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض فالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا

المشهد العاشر : مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جدا فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل : لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين وقال له : ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم, أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده : الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا سماه محن العلماء

المشهد الحادي عشر : مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه : فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها : فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ابن قيم الجوزية رحمه الله - كتاب مدارج السالكين